“السلام الصعب”.. دراسة تبين صعوبة التسوية السياسية في اليمن
المرسى – د. محمد صالح الكسادي
المقدمة:
من يتتبع الأحداث على الساحة العربية منذ ثورات الربيع العربي عام2011، وحتى الآن، يتبين له عدم وصول أي من الدول التي اندلعت فيها الحروب الأهلية إلى تسوية سياسية، ولكن مراجعة سريعة للتاريخ تبين أنه مليء بالتسويات السياسية التي تؤدي في النهاية إلى صنع السلام والتحول الإيجابي بعد فترات قد تقل وقد تطول من الصراع.
إن التسويات تمليها ضرورات محددة متعلقة بتوازن القوى الداخلية والإقليمية، لعدم مقدرة فريق إحداث تغيير في الصراع، لكن هل يمكن ربط أي تسوية بمصالح اقتصادية ومالية؟
فالظاهرة السياسية تختلف عن السلوك الاقتصادي، إذ أن متغيرات علم الاقتصاد تعتمد على محددات مادية يمكن قياسها كمياً، وكما أن علينا عدم تجاهل أن هناك متغيرات معيارية تتحكم في السياسة ولا يمكن قياسها كمياً. حيث لا يمكن إسقاط متغيرات اقتصادية كمية على واقع سياسي معين، كما لا يمكن تجاوز الثأثير القوي للمتغيرات الاقتصادية على واقع سياسي معين، بمعنى أن هناك متلازمة في الإشباع المادي. لذا فإن المتغيرت الاقتصادية والتركيز عليها بعيداً عن الاهتمام بالمتغيرات المعيارية يؤدي إلى استحالة التوصل إلى تسوية سياسية(1)[1].
لكن الأزمة اليمنية تعد حالة مختلفة لأنها تأخذ منحى أيدلوجي فكري عقائدي، لذا ربما لن يكون للتسوية السياسية أي علاقة بالجوانب المالية والنقدية، وذلك بعكس ما حدث في دول أوروبا لاسيما في ألمانيا وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كان الجانب السياسي يوازي الجانب الاقتصادي، وعليه من هذه الفرضية فإن الورقة سوف تناقش المحاور التالية:
الحركة الحوثية والفكر العقائدي.
مؤتمر الحوار الوطني وغياب التطبيق.
إعادة رسم الخارطة الوطنية.
الجانب المالي والنقدي ومصيره بعد الحل السياسي.
الحركة الحوثية والفكر العقائدي
سيطر الفكر الاثني عشري على أيديولوجيا الحركة الحوثية منذ 1992 بقيادة حسين بدر الدبن الحوثي في مناطق الشمال، في صعدة بالذات بمنطقة مران، التي كانت تشكل فسيفساء دينية جمعت بين الفكر السني السلفي (الحركة الوهابية) ويهود بني سالم، والفكر الزيدي، وكان التنافس حاداً لنشر الأفكار العقائدية الأيديولوجية المتصارعة فكرياً حينها، وهذا أدى إلى نشوء مدارس دينية تتبنى أفكاراً (شيعية جديدة) لم تكن بارزة من قبل، فبعد الوحدة والسماح بظهور الكيانات السياسية إلى السطح، تأسس حزب الحق 1990(2)[2]، ودخل في الانتخابات وحصل على ممثلين في مجلس النواب، بالإضافة إلى قيام حزب المؤتمر الشعبي العام والذي يتكون من عدة تيارات منطوية تحته بضم حسين بدر الدين الحوثي ممثلاً عن المؤتمر الشعبي العام في صعدة، وكان يتحصل على الدعم المالي من قبل الرئيس علي عبد الله صالح آنذاك، مما جعل شوكته تكبر وتقوى على حساب سلطة الدولة، وكان الفكر السلفي أيضاً يخوض منافسة محمومة، ولكنه لم ينتشر في صعدة مثلما انتشر الفكر الزيدي الذي سمح له النظام القائم آنذاك بهدف خلق التوازنات واللعب على حبل المتناقضات الدينية، أما الأقلية اليهودية فقد تم تهجير أغلب أفرادها إلى إسرائيل على فترات مختلفة.
ولقد خاضت هذه الحركة ستة حروب مع السلطة المركزية، وكانت في كل حرب تخرج بانتصارات على القوات الحكومية، بداية منذ عام 2004، لأنها استطاعت استقطاب الشباب فكرياً وعقائدياً تحت مسمى (الشباب المؤمن) حتى وصلت أخيراً إلى مسمى المسيرة القرآنية، فهي جماعة تبرز في إطار المحور الإيراني الذي ينشط في التنافس الإقليمي في المنطقة، في لبنان والعراق وسوريا وأخيراً اليمن. ويبدو من خلال مراجعة سلوك الجماعة أنها تريد تنفيذ أجندتها الفكرية والأيديولوجية، على حساب مفاهيم التعايش والتنوع الثقافي والفكري، وفق استراتيجية مكنتهم من الصعود بشكل سريع في اليمن وبخاصة بمناطق الشمال(3)[3]. وهذا أمر يختلف تماماً عن مختلف الصراعات السياسية السابقة، وينبغي وضعها بالحسبان عند أية أفكار باتجاه التسوية السياسية.
مؤتمر الحوار الوطني وغياب التطبيق
مثلت وثيقة مؤتمر الحوار الوطني التي ولدت بعد سنة كاملة من الحوار بين الأطراف السياسية المتصارعة أمل وطموحات الشعب اليمني لبناء دولة المؤسسات المدنية القائمة على الفيدرالية بين أقاليم اليمن، وقد أنجز المؤتمر وثيقة مخرجات الحوار الوطني، التي تضمنت إعادة هيكلة البرلمان ومجلس الشورى على أن يكون مناصفة بين الجنوب والشمال، وأن تتحول اليمن من شكل الدولة البسيطة شديدة المركزية إلى الدولة المركبة الحديثة، بحيث تكون دولة اتحادية فيدرالية مكونة من 6 أقاليم(4)[4]، إلا أنها اصطدمت بصخرة الفكر العقائدي الذي يسعى للسيطرة على البلد بشكل منفرد، ساعده على ذلك التناقضات المتصارعة على السلطة. فقد رفض الحوثيون هذا الانتقال للسلطة عندما حان وقت التطبيق على الواقع، عند انتهاء مؤتمر الحوار الوطني 25 يناير 2014.
لقد تم التنصل من كل الالتزامات السابقة وعندما شعروا أن الحكومة اليمنية ضعيفة بدأت حرب عمران ثم امتدت سريعاً إلى صنعاء ومحاصرة القصور الرئيسية والحكومة، وانتهت بتوقيع وثيقة اتفاق السلم والشراكة بين أنصار الله (الحوثي) من جهة والحكومة من جهة أخرى، وانتهت كسابقتها حتى الوصول إلى الحرب الشاملة.
لقد كانت وثيقة الحوار الوطني أفضل وثيقة ربما يمكن القول إنها تمثل نقطة التقاء مشترك بين الفرقاء السياسيين، ولكنها لم تستطع فعل ذلك بسبب صراعات أيديولوجية عميقة تمنع من قبول تنازلات سياسية معينة.
إعادة رسم الخارطة الوطنية
تمكن الحوثيون من دخول عدن عبر تمرد وحدات الأمن المركزي، واستمرت الحرب بداية مارس 2015، ومن ثم انطلقت عاصفة الحزم في 26 مارس 2015 بقيادة المملكة العربية السعودية، وتم فعلياً تحرير مدينة عدن في أغسطس 2015 من نفس العام، وكان العامل الأساسي لهذا التحرير هو عدم وجود حاضنة شعبية فكرية وأيديولوجية، فالحوثيون على النقيض من التيار الديني السلفي المتواجد في المناطق الجنوبية، فقد تبين الاختلاف العميق داخل المجتمع بين الشمال الذي يجد فيه الحوثيون مناصرة كبيرة، والجنوب الذي كان مواجهاً بشكل شبه كامل للحوثيين، وهذا قد عمل على إعادة تشكيل الخارطة الوطينة بشكل مختلف عما كان عليه الأمر قبل العام 2015. والآن فإنه بعد ست سنوات من الحرب والولوج في السنة السابعة، نلاحظ أن الخارطة الوطنية تتميز بالحقائق التالية:
مناطق الجنوب أصبحت محررة بشكل كامل تقريباً وبقاء السيطرة في مناطق الشمال.
في مناطق شمال الشمال: صنعاء وصعدة وحجة وعمران وإب وذمار، أصبح الحوثي فيها قوة نافذة، بينما مناطق أخرى لم يجد الفكر الحوثي قبولاً واسعا لاسيما مناطق التماس مع مناطق الجنوب وكذلك مأرب وبعض مناطق تعز والحديدة والبيضاء.
إن موازين القوى خلال الصراع ولمدة ست سنوات ونيف تغيرت، وبالرغم من تفوق الآلة العسكرية لدول التحالف، إلا أن الحشود العسكرية المشبعة بالأفكار العقائدية ظلت تناصر حركة الحوثي وتحاول التمدد خارج جغرافيتها، وهذا عمل على تغيير الكثير من الحقائق على الأرض.
إن الأزمة اليمنية والحرب التي أتت على الأخضر واليابس تحتم ضرورة الوصول إلى تسوية سياسية جذرية وليس شكلية. على الرغم من أن الجغرافية تغيرت والأوضاع السياسية اختلفت عن عام 2015، واللاعبين الدوليين والإقليميين لم يصلوا بعد إلى قناعة في إنهاء الحرب باليمن.
وبحسب الخارطة الجغرافية الجديدة، فإنة من الصعوبة الوصول إلى تسوية سلمية لانعدام الثقة بين الأطراف المتحاربة، فاتفاق السويد (استوكهولم) حول ميناء الحديدة عام 2018 نموذج واضح على ذلك، وهذا يبين أن أي تسوية في المستقبل سوف تكون هشة، لأن هناك تقاسماً للأرض اليمنية بين أطراف مختلفة، في ظل عدم وجود قوة مركزية قادرة على فرض سيطرتها بالقوة. بل تتوزع حتى المناطق المحررة بين مناطق نفوذ الشرعية اليمنية، ومناطق الانتقالي الجنوبي، على الرغم من محاولة اتفاق الرياض 2019 إخماد نيران الخلافات بين الطرفين.
الجانب المالي والنقدي ومصيره بعد الحل السياسي
إن التسويات السياسية القابلة للصمود والاستمرار ينبغي أن تبعد عن ونهج الصفقات الاقتصادية التي لا تصلح إلا في الشركات التجارية. فمطلب بناء الدولة بالنسبة للشعوب يعد أكثر أهمية من بناء المصانع أو رصف الطرقات أو الحصول على المعونات المقدمة بشروط، فالدولة هي رمز الهوية الوطنية وسيادة القرار على الأرض(5)[5] من أجل مستقبل آمن ومستقر. لا يمكن أن تصمد أي تسوية سياسية باليمن إذا لم تقم على رهان معاناة الشعب في الجنوب، واحترام التطلعات الوطنية، وتمكين الشعب من تقرير مصريهم بعيداً عن شبح الوصاية الأجنبية.
لذلك فإنه من المهم التأكيد على استحالة التوصل إلى حلول الآن في ظل وجود اختلاف أيديولوجي وعقائدي، لأنه سوف يؤدي بالضرورة إلى خلل في الاقتصاد، إذ لا يمكن الحديث عن نظام مالي أو نقدي في ظل الانقسام القائم في المؤسسات المالية ووجود نظامين ماليين مختلفين بشكل كامل من حيث الأداء في السياسة المالية المتبعة والسياسة النقدية، وكذلك وجود عملتين مختلفتين في الشكل والحجم والقيمة، وعدم سريان القرارات والتعميمات التي يصدرها البنك المركزي بعدن في مناطق سيطرة الحوثي.
إن النظام المالي والنقدي يعاني من انهيار كامل في المناطق المحررة نظراً لانعدم الرؤية المستقبلية لهذه المناطق وانتشار الفساد المالي. لذا لن يطرأ أي تغيير على الوضع المالي إذا لم تحل الأزمة اليمنية المركبة التي تتداخل فيها عوامل سياسية ودينية واقتصادية وتتشابك مع عوامل خارجية تؤثر فيها بشكل سلبي مباشر ومنها(6)[6]:
المشروع الإيراني بالمنطقة العربية.
المشروع الإقليمي في دول الجزيرة العربية بقيادة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات.
المصالح الغربية الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين والأطماع في باب المندب الممر الدولي.
أما في حال توقفت الحرب فإن النظام المالي والنقدي ما بعدها سوف يعتمد عل شكل الدولة التي سوف تتشكل في هذه المناطق مستقبلاً سواء أكانت فيدرالية أو مقاطعات مستقلة أو دولتين، وبالتالي يمكن القول إنه سوف تكون المؤشرات والموازين الاقتصادية الكلية إيجابية. من خلال المؤشرات التالية:
انخفاض الأسعار.
تحقيق فائض في ميزان المدفوعات.
استقرار وتحسن العملة.
تقليص العجز في الموازنة العامة للدولة.
النمو الاقتصاديGDP.
الخلاصة
من خلال الاستعراض للمحاور السابقة فإننا نستخلص الآتي:
إن التسوية السياسية بعد تعثر الحل العسكري في ست سنوات ونيف هي الحل الوحيد للمشكلة في اليمن، ولكن يبدو هذا الحل صعب التحقق لسبب رئيس هو أن هناك حرباً قائمة على أسس أيديولوجية وعقائدية ولا يمكن معها الاتفاق على أسس سياسية.
انعدام الثقة في جماعة الحوثي (أنصار الله) نتيجة للتراكمات السابقة المليئة بالاتفاقات والمعاهدات التي انتهت غالباً بالحرب والقتال بدءاً من الحروب السته في 2004 حتى حرب دماج وثم حرب عمران 2014 ثم دخول صنعاء في 21 سبتمبر 2014، ثم أخيراً التحالف مع الرئيس السابق علي عبد الله صالح ومقتله على أيديهم في ديسمبر عام 2017(7)[7].
هناك صعوبة في التعايش وإحلال السلام باليمن، حيث تعد الأيديولوجيات المذهبية التي لا تؤمن بالسياسة كفعل جماعي بشري سلمي وإنما بوصفها قوة قاهرة تخضع الجميع لمنطقها وأدواتها الدينية الطائفية.
تاريخ اليمن مليء بالتسويات السياسية ومعظمها فشل، وإن دامت عشرات السنوات ما تلبث أن يستقوي أحد الأطراف على الآخر ثم الانقلاب عليه.
إن وجود وضع مالي ونقدي مستقر لن يولد إلا في ظل وجود دولة تتحكم بالموارد الطبيعية والبشرية لخدمة الشعب.
إن أي تدهور اقتصادي سوف يكون له تبعات سياسية، وبخاصة في المناطق المحررة.
أي تسوية سياسية إذا لم تترافق مع تغيير اقتصادي فإنها تعتبر فاشلة مثلها مثل ما حدث في الحرب العالمية الأولى في أوروبا بخاصة مع ألمانيا.