“محمد بن سلمان”.. هل يؤسس لدولة سعودية رابعة؟!

رأي - د. صادق القاضي

في ‏مقابلته الأخيرة مع مجلة “ذا أتلانتك” الأمريكية، ومن بين أشياء كثيرة مهمة، تتعلق بماهية ومستقبل النظام السعودي، فإن الأكثر أهمية، ما أكد عليه ولي العهد “محمد بن سلمان” بشأن تصوره لمستقبل العلاقة بين الدين والسياسة في شخصية وكيان وكينونة النظام الحاكم في بلاده.

هذه العلاقة هي الأكثر قِدماً وإشكالية في تاريخ السعودية، وقد دشنها جده الأول الأمير “محمد بن سعود”، مؤسس الدولة السعودية الأولى، مع الشيخ “محمد بن عبد الوهاب” مؤسس المذهب والجماعة الوهابية، وفق صفقة تاريخية، لتحالف وجودي مصيري بين الطرفين. بالشكل الذي طبع النظام السعودي بطابعه منذ منتصف القرن الثامن عشر.

تبعاً للالتزامات المتبادلة لتلك الصفقة القديمة، وفي مقابل الدور الجوهري لهذه الجماعة في تأسيس الدولة السعودية، والدفاع عنها، وتوسيع حدودها، والمساهمة في استعادتها بعد سقوطها أكثر من مرة.. تضمنت الالتزامات من جانب الدولة:

-تبنّي المذهب الوهابي الذي يرى نفسه الصيغة الوحيدة الصحيحة للإسلام، على حساب المذاهب “الضالة المضلة”، كالصوفية التي كانت سائدة حينها في نجد وغيرها.

من نافلة القول إن هذه الالتزامات، أدبية نظرية في معظمها، وأن الجماعة الوهابية، في السعودية، من حيث الوظيفة، غيرها في البلدان الأخرى، كما أنها لم تكن في عهد المؤسس، كما أصبحت عليه لاحقاً، بعد احتكاكها بجماعات وإيديولوجيات إسلامية أخرى طوال القرن العشرين.

لكن، في كل حال، التبعات السلبية للوهابية، تجسدت في بلدان أخرى، أكثر مما تجسدت في السعودية التي حرصت سلطاتها المتتابعة، رغم كل شيء، على الفصل بينها، وبين هذه الجماعة، ووضع سقف معقول لنفوذها واشتراطاتها وطموحاتها السياسية.

كان رجل السياسة السعودي دائما هو سيد الموقف، أمام رجل الدين، وبيده زمام اللعبة التي لم تخرج عن مسارها المحدد، إلا نادرا وبشكل هامشي، كما في عهد الملك عبد العزيز الذي اضطر مرة للمواجهة المسلحة مع بعض التنظيمات الجهادية القائمة على أساس هذا المذهب كـ”إخوان من أطاع الله”.

ومع ذلك، ظلت العلاقة بين الطرفين في السعودبة، قوية صامدة كعادتها دائما، وقد شهدت أقوى حالاتها تلاحما وعنفوانا مع بداية ثمانينيات القرن الماضي. لسببين مهمين:

على المستوى المحلي: في عام 1979. قامت حركة “جهيمان العتيبي”، بالاستيلاء المسلح على الحرم المكي، ولمواجهة تيار هذه الحركة التي حاولت المزايدة على الدولة بالورقة الدينية، قامت الدولة بمضاعفة دعم التيار الديني المتشدد، الذي عرف بتيار الصحوة.

على المستوى الإقليمي: في العام نفسه، نجح الإسلام السياسي الشيعي في إيران، بالوصول إلى سدة السلطة، إيذانا باندلاع صراع طائفي على امتداد المنطقة. ما دفع النظام السعودي لمواجهة مشاريعه الدولية، بزيادة دعم التيارات السلفية ومختلف فصائل الإسلام السياسي السني في المنطقة والعالم.

الحلول، على المستويين، زادت من حدة المشكلة، التي كانت وظلت وما تزال تمثل بحق أصعب العقبات الكؤودة التي تحول دون التنمية والمدنية والحداثة والنهضة.. ليس فقط في السعودية، بل على مستوى العالم العربي والإسلامي.

منذ توليه ولاية العهد، أكد محمد بن سلمان، من خلال مقابلاته وتصريحاته وإجراءاته، على وعي عميق بجذور وحيثيات وأبعاد مشكلة الإسلام السياسي، عموما، وفي مقابلته الأخيرة، أكد على التغيير الجوهري في رؤية وتعاطي النظام السعودي، مع هذه المشكلة على المستويين:

على المستوى الدولي: وبجانب إعلان القطيعة والرفض مع التنظيمات الدولية للإسلام السياسي، كالإخوان المسلمين، كانت المقابلة بمثابة بيان سياسي، عن انسحاب النظام السعودي من طرف واحد. من الطابع الطائفي لصراع المحاور الإقليمية:

“الإيرانيون جيراننا، وليس بإمكاننا التخلص منهم وليس بإمكانهم التخلص منا، لذلك من الأفضل أن نحل الأمور، وأن نبحث عن سُبل لنتمكن من التعايش”.

هكذا قال، وهي خطوة ودعوة بناءة، لو استجابت لها إيران، وهذا مستبعد بطبيعة الحال. فإن الصراعات المندلعة حاليا في عدة دول على امتداد الإقليم، حتى وإن لم تصل إلى حل، فستصبح أكثر شفافية ومنطقية ورقيا باعتبارها صراعات على مصالح دنيوية موضوعية، لا على عقائد وثأرات دينية.

على المستوى المحلي: وجد محمد بن سلمان نفسه، كسابقيه، مكبلا منذ البدء، بالالتزامات التاريخية للنظام تجاه هذه الجماعة والعقيدة، غير أنه تعامل معها منذ البدء بشكل مختلف تماما، وأعلن عن رؤى وتصورات وتوجهات ومشاريع.. تتعارض بشدة معها، ضمن استراتيجية متكاملة معنية بالانفتاح والتمدين والتحديث والتطوير ومواكبة العصر والحياة.

بل قام، تزامنا مع إعلانه عن “رؤية 2030″، بتقليم أظافر هذه الجماعة، والحد من سلطاتها الرقابية العامة، من خلال حل “هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، بجانب إتاحة حقوق وحريات كانت محظورة محرمة على المرأة والرجل على السواء، وإزالة قيود كانت تحول دون مشاركة معظم الشعب السعودي في البناء والتنمية.

العملية برمتها ما تزال في بداياتها الأولى، لكن الخطوات التي حدثت حتى الآن، نوعية، وغير مسبوقة، ولإدراك حجم الفرق علينا أن نتذكر أننا أمام نظام هو تقليديا، شريك للجماعة الوهابية، حد الترادف.!

بدأت هذه البديهية التاريخية بالتفكك، وكإعلان لانتهاء هذه المرحلة، بدأ محمد بن سلمان بنفي أن تكون هناك شراكة تاريخية أصلاً، بين الأجداد المؤسسين. قائلا:

“الشيخ “محمد بن عبد الوهاب” كان داعية فقط، ومن ضمن العديد من السياسيين والعسكريين الذين عملوا في الدولة السعودية الأولى”.

وأضاف. نفياً للعلاقة الترادفية بين النظام السعودي والوهابية:

“الشيخ محمد بن عبدالوهاب” ليس السعودية.. المملكة فيها مذاهب متعددة، ولا يمكن لشخص الترويج لمذهب معين، وجعله الطريقة الوحيدة لرؤية الدين في السعودية”.

وأهم من ذلك ما قام به عمليا، في الواقع السعودي. من كبح القوى الوهابية، والحد من صلاحياتها، لصالح القوى الخلاقة للشباب، والمرأة، في ظل التفاف شعبي جارف يساعد من تقبل وتسارع وتيرة هذه التحولات.

في الأخير. قد أكون مسرفاً في التفاؤل، لكن، هناك أكثر مما نحتاجه من البوادر الواعدة التي تعزز التوقعات بتحولات جوهرية تتعلق بأسس ومنطلقات وأهداف ومرجعيات.. هذا النظام الأهم والأعرق في المنطقة.

كل شيء، حدث ويحدث هناك خلال السنوات الأخيرة يؤكد أننا أمام قيادة نوعية شابة مختلفة تحمل مشروعا نوعيا طموحا لبلادها، وأن النظام السعودي يتغير، ليس فقط من حيث الكم والدرجة، بل من حيث الكيف والنوع، بما تقتضيه متطلبات التغيير والتطوير والنهضة الحقيقية الشاملة.

ومن المؤكد أن هذا التغيير لن يتم في الشكل، كما يطمع الثورجيون السذج من كل نوع. قال محمد بن سلمان: لا أستطيع تغيير السعودية من ملكية إلى نظام مختلف. الأمر مرتبط بملكية قائمة منذ 300 سنة.

في المقابل، التغيير هناك يحدث، بعمق وهدوء ورزانة ومسئولية.. حيث ينبغي أن يحدث. في: المضامين، والوظائف والمنطلقات.. كما يطمح الثوار الحقيقيون، في قيادة المملكة، ومن المؤكد أن ثمار هذه التحولات الإيجابية لن تصب في مصلحة السعودية وحدها، بل على مستوى الجزيرة العربية، والعالم العربي والإسلامي، بقدر ما كانت إشكاليتها فيهما تنعكس سلبا على كل هذه المستويات.

Exit mobile version